الاثنين، 20 أكتوبر 2014

قبو العشق ( قصة ) | الحلقة 1 و 2 و 3



الجزء الأول

صديقة يهودية مدمنة على شرب السجارة , لم أصادف ذكرا لاثما لتلك القاتلة كهذه الصديقة , أخبرتها يوما أني لا أطيق دخّان السجائر , و أني أختنق كلّما استنشقتُ هواءا عكّرته سُحب الدّخان ذاك . . فما كان عليها إلا أن منعت نفسها عن التدخين في حضرتي و وجودي معهم .. هي فتاة ثلاثينية شقراء , تعمل كمحاسبة في وكالة بنكية من أبناك الربا المنتشرة طولا و عرضا في تراب المغرب الإسلامي , سيّارتها الفخمة التي يوازي ثمنها أكثر من ستّ أكواخ فاخرة بحيّي الصفيحي مثيرة جدّا , و علامتها الشهيرة بجودة الإنتاج في العالم خير دليل . . تقريبا كل شيئ عندها مباح , لا قيود و لا حدود قد تمنعها من الاستمتاع بأي شيئ كان و في أي زمكان ;
ذات يوم ; اقترحت عليّ مرافقتها و ثلّة من أصدقائها و صديقاتها إلى مدينة ساحلية في جولة شبه سياحية إلى شاطئ من شواطئ الأطلسي , شتّان بيني و بينهم طبقيّا في المجتمع , هم من هناك و لا أرى أمثالهم إلا في الأفلام و المسلسلات الأجنبية التي تُعرض في الفضائيات العربية , و أنا من هنا , لا يرون أمثالي إلا في الريبورتاجات الإخبارية المغربية و الأفلام الوثائقية التي تروي حيات البائسين من البشر الذين جار عليهم الزمن . .
حدّدوا اليوم و ساعة الانطلاق و الوِجهة. . و كانت الانطلاقة في صبيحة سبت انسلخت لتوّها من ليلها , سيّارتين فخمتين و ثلاث فتيات و نحن ثلاث شاب ,
أنا مع شيماء في سيارتها و الرفاق في السيارة الأخرى , كأننا في موكب رسميّ خُصّ لشخصية ديبلوماسية غبية , و بما أني أصاب بدوار حركة وسائل النقل , فلم آكل شيئا هذا الصباح , بل لم أتعشى إلا بالقليل من التفكير في موضوع التقيّؤ بقلب هذا البلاط الملكي المتحرّك على عجلات أربع , كنت صامتا متكئا على مقعدي كالمومياوات الفرعونية تحت حزام الأمان الكاذب , و كانت صديقتي البورجوازية تسألني بين الفينة و الأخرى عن أموري و أحوالي الشخصية و أنا غارق في التفكير بجديّة في المصيبة القادمة , و حال نفسي يقول : سأصبر , فهذه المسافة قصيرة , و أنا لم آكل شيئا أصلا و لن يكون هناك تقيؤ أتخيّله و حسب . . !! أعراض الدوار تَستعرض عضلاتها أمامي و الدوخة و الغثيان يسيطران عليّ و جهازي الهضمي يهضم اللاشيئ كي يزيد الطين بلّة , و هكذا بقيت شاردا عنها و هي تستمتع بموسيقاها المختارة , كان المعتوه بوب مارلي مالئا الأجواء بصوته الخشن المعوجّ و مقطع One love يُعاد و يعاد , و هي تردّد معه بكلّ تخشّع و بدون أي ملل One Love! One Heart! . . . Let's get together and feel all right
أمّا أنا فصرت أغني في نفسي : ما تغدرينيش و يا الخدّاعة , راكي خاوية و باغية غير تفرشيني مع الصديقة ♫ ♫ . . محاولا تهديئي و التخلص من وهم " التبويعة " و لكن دون جدوى , لقد فات الأوان و لم يعد بودّي إلا أخذ الكيس البلاستيكي الذي حشوته في جيبي احتياطيا و فتحته ملء وجهي , و بدأت سنفونية التبعبيع و التوعويع لأخراج ما ليس موجودا في جوفي , كما لو أني أريد إخراج المعدة و الأمعاء و باقي أعضاء الجهاز الهضمي رغما عنهم و عنّي , و شيماء بدأت في الضحك بشكل غريب و أمدّتني بعقار قائلة لي أنه مفيذ لمثل هذه الحالات . . لقد تفرشت و الطريق لا يزال طويلا . . . 


الجزء الثاني


. . ابتلعت العقار متبوعا بقنينة كاملة من دانابّ , فارتحت قليلا و اختفى الدّوار و صداع الرّأس , و أعدتُ الكيس البلاستيكي من حيث أخذتهُ . . أدرت وجهي بتعامد مع صدري صوب شيماء , و شكرتها على تدخّلها فاتحا باب نقاش من النقاشات التافهة لتغيير و تلطيف الجو الذي عكّرته بتلك الحركة الغبية اللاإرادية
سألتها عن المسافة التي قطعناها و التي بقيت 
سألتها عن الوقت
سألتها و سألتها أسئلة اعتباطية تتأرجح بين المعقول و التفاهة
و كان بوب مارلي لا يزال ينبح عن حب واحد و قلب واحد و ذاكشي , و هي تردّد معه إلى أن رميتها بسؤال أغلقت معه صوت الموسيقى .. قلت لها بكل بساطة هل لك حبيب ؟ ليعمّ صمت رهيب داخل السيارة التي تسير بصمت أكثر رهبة على بساط الطريق السيار , و الأشجار مصطفّة تُحيّينا تحية عسكرية . .
ردّت عليّ :
اسمع يا محمد , اسمعني جيّدا . . أنا فتاة نصف مغربية , و نصفي الآخر في كندا , والدي مغربي الأصل و المنشأ و هو من أسرة مسلمة محافظة , ينحدر من أحد المناطق بالقرب من مدينة فاس , عندما كبُر هاجر إلى الخارج , و حطّ رحاله بكندا حيث وجد هناك عملا , بعد مدّة تعرّف على فتاة يهودية هناك , و الديها ينحدران من الدانمارك و هاجرا للعمل بكندا و استقرّا هناك . .
تزوّجا و أنجبتنني والدتي بعد أشهر قليلة من حفل الزفاف الذي تمّ على الطقوس اليهودية , أسماني والدي شيماء و لم تمانع أمّي , عندما أكملت خمس سنوات , قرّر أبي العوة إلى المغرب و الاستقرار هنا , و حبّذت والدتي الفكرة و لم تمانع . . درست بشكل عادي كل المراحل التعليمية هنا و كنت مغربية مسلمة بالانتماء و حسب
أخذت إجازتي في القانون عندما بلغت الربيع الواحد و العشرين من عمري , و في نفس السنة توفّي والدي في حادث سير مروع , بعدما كان عائدا من العمل ليلا و هو ثمل . . انتقلت بعدها و والدتي إلى العيش في إحدى الضواحي الباريسية التي تحوي اليهود هناك بفرنسا , و هناك عملت كمساعدة لمحامية يهودية مشهورة هناك , و أتممت دراستي في القانون إلى أن حصلت على شهادة الكفاءة المهنية للمحاماة و قرّرت العودة إلى وطني رغم حملي للجنسية الكندية حيث يقطن جدّاي لوالدتي . . كل هذا فقط لأخبرك صديقي أنني نشيطة بشكل عشوائي , لست مستقرة لا في الدين و لا في الموطن و لا في الأفكار و لا حتى في عواطفي , لأنّني انقلبت على من أحبّني و خذلته , و ما كان كان عليه إلا أن قتل نفسه و مات منتحرا . .

كان كلامها مُرفقا بتعابير الحسرة على وجهها المشرق إلى أن نضحت عيناها بدمع غزير . . أوقفت السيارة بفرملة حادّة سُمع صوتها في الأرجاء , و اتكأت على المقود و أكملت بكاءها الهستيري بنحيب جيّشني إلى ذرف الدّمع على المشهد الذي وقف شعر جسدي له . .
قالت بصوت مرتفع : حتّى أنا كُنت أحبّه , و لكن لم أفكّر في الزواج مثله , أردته صديق أبديّ دون ارتباط بأوراق تافهة , أردته حبيبا و أردت نفسي حرّة في نفس الوقت . .


الجزء الثالث


. . . تدخّلت بينها و بين نفسها مُقاطعا إياها بهدوء : لا عليك يا شيماء , تلك مشيئة الله , و ما حدث حدث و نواحك و تأسّفك لن يُعيداه إلى الحياة من جديد , هو أقدم على قتل نفسه عن جهل , و رعونته أضعَفتهُ حين تجبّر الشيطان , الآن ما عليك إلا التفكير في مستقبلك و حبّذا تغيير السّبيل التي تسلكينها إليه . .

رفعت رأسها من على المقود , و استدارت صوبي مبتسمة مع دموع خفيفة تجري على خذّيها الورديتين , مَعَست عينيها الواسعتين اللتان احمرّتا بالبكاء , و أخذت منديلا ورقيّا نشَّفَت به وجهها , نطقت بكلمة واحدة هي " شكرا " و انطلقت السيارة صوب الوجهة دون أن أنطق أن بأي إضافة ;
شغّلت جهاز الراديو و كانت المحطة هي الإذاعة الوطنية , و على جناح أثيرها أغنية "غير خوذوني " الغيوانية التي تقول :
سيل سيل يا الدم المغدور
تراب الأرض محال ينســـــاك
وحوش الغابة ترهبات منـــك
السم ف الصحاري جافل منك
دم المغدور ما نْسْلّمْ فيــــــــه
حق الظلوم أنا مـــا نــــدوزه
يا طاعني من خلفي . . . موت وحدة هي
غير خودوني . . . لله غير خودونــــــي . . .
الأغنية جميلة , راقتني و راقتها و كُلٌّ منّا يهمهم بشفتيه بصمت مع الكلمات , رغم أني لا أحفظ حرفا إلا أني تظاهرت أمامها بالترديد الغنائي المُصطنع . .
كانت الساعة تشير إلى الثامنة إلاّ دقائق صباحا , و نحن شارفنا على الوصول بعد أن تراءى لنا شاطئ المهدية من بعيد ,
رغم أن الوقت مبكّر , فمحيط المنطقة كان مليئا بالناس , كلّ أنواع الناس هناك , من الصغار حتى الكهول , ذكورا و إناثا , مغاربة و أجانب , و بمختلف الإديولوجيات و المذاهب , و التنوع المتباين في التفكير بين المعتدل و المتزمّت و المنحلّ يُضفي على المكان مُسحة جمالية تجمع بين الانفتاح التام على الغرب و الارتباط الكبير بالأصل . .
وصلنا الشاطئ , نزل الجميع من السيارتين بعد ركنهما في المرآب الخاص بالمكان , حملنا بعض الحقائب و دخلنا حُفاة إلى الرمال , وقفت شيماء متفاوضة مع صاحب الخِيم و بعدها قصدنا خيمة مجهّزة أرشدنا إليها الشاب المكلّف . .
إنه الشاطئ أخيرا , الجوّ لطيف , فرغم أن الشّمس تُنذر بيوم حارّ , إلا أنّ الأمواج الملوّحة لنا تُكذّبها ساخرة منها برغوتها البيضاء
الناس تغدو و تروح , أغلبهم شبه عُراة , و أغلبهم إناث
المظلاّت تُغطّي مساحة على مدّ البصر إذا نظرت من اليمين إلى الشِّمال بشكل عموديّ مع البحر , و الجانب الآخر حدٌّ بالصخور المرصوصة التي تعلوها صخرتان ثوأم منها ينطّ الصغار و الكبار ممن لهم أكباد المرتفعات . .
غيّرت كلّ الفتيات هندامهنّ , و نزع الشباب و أنا أوّلهم القمصان , ليكشف كلّ واحد عضلاته المفتولة , و صدره البارز المليئ بالشعر . . عندما حاولت المقارنة بيني و بينهم كِدت أغرق في خجلي من بنيتي الهزيلة , جسد نحيف و صدر متلكّئ و أضلع امتصّت اللّحم و الجلد , عندها شعرت كأنّه دبيب نمل في عروقي , و وخز إبر على قشرة رأسي . . ابتسمت تلك الابتسامة الأشدّ اصفرارا لتبرز معها أسناني المبعثرة يتقدّمهم قاطعين كرؤوس الأشهاد . .
بدأ الجميع بطلاء المراهم و المساحيق المنوّعة على الوجوه و الأجسام . .
يتبع ..

                   فيسبوك  تويتر  أنستغرام  تيليغرام  يوتيوب 

0 التعليقات :

إرسال تعليق