الثلاثاء، 9 سبتمبر 2014

مشهد


ذات صباح من صباحات المواطن المغربي العادي , قصدت المُقاطعة للحصول على وثيقة إدارية . . كان صباحاً شديد الحرارة و شمسُه اللاذعة تلفح الحيّ و الشّيئ . . الكُلّ على أعصابه , فائر , غاضب , متوتّر , مُكبّل بخيوط الملل , على شفير مشادّات كلامية لأتفه الأمور . . الموظّف متجهّم في وجه المواطن البائس الراغب فقط في قضاء مصلحته و المغادرة بسرعة من تزمّت الإدارة بجوّها و حيّها و شيئها . . و المواطن ما عليه إلا تصنّع الصّبر كي يحصل على مأربه و يغادر بسلام
مكتب يواجه مكتب و آخر عموديّ على السابقين في نهاية دهليز شبيه بدروب الأحياء العتيقة , و في كلّ مكتب مكتبين للواحد منهما مقعدين و بضع وُريقات و وثائق موضوعة بمعية عدد من أختام الدّولة على سطحه . .
دخلتُ مكتب تسليم نُسخ عقود الازدياد , إنّه مملوء بالبشر حدّ التُّخمة , الوُقوف المُتصافّون كالجُندِ أقلُّ عدداً من الجُلوس على الضّص الذين يفترشون وثائقهم أو أحذيتهم لعدم توفّر مقاعد الانتظار . . يُقابل مدخل المكتب نافذة مفتوحة على مصراعيها تُطلُّ على سقّاية بصنبور واحد بمحاذاة شجرة تين لا يُستفاذ منها إلا ظُلّتها
الموظف الأصلع ذو الشّارب الكثّ بدا عليه العياء , أصابعُه لم تعُد تقوى على الإمساك بذاك القلم الذي يبدو أنّ له معه قصصا و حكايات لا يعُدُّها و يحصيها إلا مُتفرّغ لكلّ الفراغات الفارغة , وضع القلم و شبك أصابع يديه مع بعض فَعَلاَ صوتُ طقطقة أوحت أن التّشنّج أصاب الأصابع و باقي العضلات و الأطراف . . أخذ سجارة من على أذنه اليسرى و لوّح بيده إلى زميله الذي يقابله بعد أن همهم مناديا عليه ليمُدّه بالقدّاحة . . أضرم ناراً كالتي تسعّرت في دماغه و جسده الذي يتصبّب عرَقاً في تلك القاتلة الحقيرة . . أدخل ما أدخل من دخّانها في جوفه لتخريب تلك الإسفنجة النّاقلة للهواء الجوّي إلى مجرى الدم و تخليصه من ثنائي أوكسيد الكربون اللاّمفيذ للجسم , ثُمّ نفث في جوّ الغُرفة الصغيرة غَماماً غطّى الأجواء و عكّرها , بل هو سحاب رُكاميّ زاد من تزمّت الوسط , و ابتزّ بذلك المواطن الذي رٌبّما يعاني حساسية مُفرطة من هذه الروائح المميتة _ حتّى و إن لم تكن هناك حساسية من رائحة دخّان المدخّن فهي تبقى مُضرة مميتة _ . .
ازداد الغيظ غيظاً , و تعب الموظّف من روتينه المُمِلّ الذي يتمحور فقط حول تعبئة نُسخ عقود الازدياد بمُعطيات منقولة من كُنّاشات الحالة المدنية و الختم و التوقيع و لمّ درهمين مقابل كلّ طابع بريدي و الصبر لم يعد له صبرٌ عند المواطن العجول في قضاء أغراضه و لو بسَكْب كوب قهوة على رأس الموظف كي يُقدّمه عن البقية
إلى حدود هذه الأسطر السابقة , كل شيئ يبدو عاديا و السماء كالقلوب الطاهرة صافية
الحدث """""""
امرأة متوسّطة العُمر و القدّ , خَتَم الزّمن على وجهها المُقْمَطِرّ معاني التّعاسة و الشّقاء , لا يبدو أنها في السّن الظاهر عليها إذا نظرت خلف ملامحها البريئة , إنّها أصغر من عُمرها بكثير , يا للشّقاوة و يا لغدرك أيّها الدّهر المُجرّد من الرحمة يرافق السّيدة صبيّ لا يتعدّى الثلاث شِتاءات و الراجح أنّه ابنها , إنّه يصرخ و يتمتم بكلام لأمّه مفاذه " لنخرج من هذا المكان " و أمّه تهدّؤه بتلطّف و رِفقٍ و صبرُها في أطواره النّهائية للفناء . . ارتفع بكاء الصبي و كثُرت الهمهمات و اللغيط و الجلبة السّوقية سيطرت على الجوّ , افإذا بأحد الموظّفين يصرخ حتى قارب على قطع حباله الصوتية : " سَكّتونا يا الزّمر و سكتو عليا هاذ البجغوط و لا خرجوه " . . فما كان من الأم إلا أن هَوَت بكفّ من صًلب على ظهر ذاك المشاغب المشاكس الذي أوقدَها غضباً " خربلااااااط " !! . . زاد بكاء الصّبي عن حدّه و اختلطت دموعه بخُنانه و أخرج كلمة وااضحة شفّافة ناهراً والدته بها " ابتعدي عنّي أيتها العاهرة " و كانت كلمة زنقاوية هابطة . . عمّ صمتٌ رهيب كأن الموت حصد الكلّ إلا من ثغاء البعلوك الذي تمادى بكلمات أكثر وقاحة , فجأة خربقته أمه بلكمات و كفوف يسارية و يمينية من أسفله و أعلاه _ بطّنته و سلخته من المزيان _ حتّى انتزعته منها امرأة أخرى كي لا تقتله أو تُيبه بعاهة لقدّر الله

محمد لخبيزي العامري

10/09/2014

-----------------

0 التعليقات :

إرسال تعليق